سورة المدثر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المدثر)


        


ولما ختمت المزمل بالبشارة لأرباب البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيئ للقيام بأعباء الدعوة، افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب الخسارة، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب: {يا أيها المدثر} المشتمل بثوبه، من تدثر بالثوب: اشتمل به، والدثار- بالكسر ما فوق الشعار من الثياب، والشعار ما لاصق البدن «الأنصار شعار والناس دثار» والدثر: المار الكثير، ودثر الشجر: أورق، وتدثير الطائر: إصلاحه عشه، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر لذلك مناسبة للتدثر، واختير التعبير بها لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن، والإدغام شديد المناسبة للدثار.
ولما كان في حال تدثره قد لزم موضعاً واحداً فلزم من ذلك إخفاء نفسه الشريفة، أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام، وسبب عنه الإنذار إشارة إلى أن ما يراد به من أنه يكون أشهر الخلق بالرسالة العامة مقتض لتشمير الذيل والحمل على النفس بغاية الجد والاجتهاد اللازم عنه كثرة الانتشار، فهو مناف للتدثر بكل اعتبار فقال: {قم} أي مطلق قيام، ولا سيما من محل تدثرك بغاية العزم والجد.
ولما كان الأمر عند نزول هذه السورة في أوله والناس قد عمهم الفساد، ذكر أحد وصفي الرسالة إيذاناً بشدة الحاجة إليه فقال مسبباً عن قيامه: {فأنذر} أي فافعل الإنذار لكل من يمكن إنذاره فأنذر من كان راقداً في غفلاته، متدثراً بأثواب سكراته، لاهياً عما أمامه من أهوال يوم القيامة، وكذا من كان مستيقظاً ولكنه متدثر بأثواب تشويفاته وأغشيته فتراته، فإنه يجب على كل مربوب أن يشكر ربه وإلا عاقبه بعناده له أو غفلته عنه بما أقله الإعراض عنه، وحذف المفعول إشارة إلى عموم الإنذار لكل من يمكن منه المخالفة عقلاً وهم جميع الخلق، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان نزل عليه جبريل عليه السلام ب {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] ونحوها فكان بذلك نبياً ثم نزلت عليه هذه الآية فكان بها رسولاً، وذلك أنه نودي وهو في جبل حراء، فلما سمع الصوت نظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، فرفع رأسه فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام جالس على عرش بين السماء والأرض، ففرق من ذلك أشد الفرق، فبادر المجيء إلى البيت ترجف بوادره وقال: «دثروني دثروني، لقد خشيت على نفسي، صبوا عليّ ماءً بارداً».
ولما كان الإنذار يتضمن مواجهة الناس بما يكرهون، وذلك عظيم على الإنسان، وكان المفتر عن اتباع الداعي أحد أمرين: تركه مما يؤمر به، وطلبه عليه الأجر، كما أن الموجب لاتباعه عمله بما دعا إليه، وبعده عن أخذ الأجر عليه، أمره بتعظيم من أرسله سبحانه فإنه إذا عظم حق تعظيمه صغر كل شيء دونه، فهان عليه الدعاء وكان له معيناً على القبول فقال: {وربك} أي المربي لك خاصة {فكبر} أي وقم فتسبب عن قيامك بغاية الجد والاجتهاد أن تصفه وحده بالكبرياء قولاً واعتقاداً على كل حال، وذلك تنزيهه عن الشرك أول كل شيء، وكذا عن كل ما لا يليق به من وصل وفصل، ومن سؤال غيره، والاشتغال بسواه.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: ملاءمتها لسورة المزمل واضحة، واستفتاح السورتين من نمط واحد، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه عليه الصلاة والسلام وعظيم تكريمه {يا أيها المزمل} [المزمل: 1] {يا أيها المدثر} [المدثر: 1] والأمر فيهما بما يخصه {قم الّيل إلا قليلاً نصفه} [المزمل: 2- 3] الآي، وفي الآخرى {قم فانذر وربك فكبر} [المدثر: 2- 3] أتبعت في الأولى بقوله: {فاصبر على ما يقولون} [المزمل: 10] وفي الثانية بقوله: {ولربك فاصبر} [المدثر: 7] وكل ذلك قصد واحد، واتبع أمره بالصبر في الزمل بتهديد الكفار ووعيدهم {وذرني والمكذبين} [المزمل: 11] الآيات، وكذلك في الأخرى {ذرني ومن خلقت وحيداً} [المدثر: 11] الآيات، فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد- انتهى.
ولما كان تنزيه العبد عن الأدناس لأجل تنزيه المعبود، قال آمراً بتطهير الظاهر والباطن باستكمال القوة النظرية في تعظيمه سبحانه ليصلح أن يكون من أهل حضرته وهو أول مأمور به من رفض العادات المذمومة: {وثيابك فطهر} أي وقم فخص ثيابك الحسية بإبعادها عن النجاسات بمجانبة عوائد المتكبرين من تطويلها، وبتطهيرها لتصلح للوقوف في الخدمة بالحضرة القدسية، والمعنوية وهي كل ما اشتمل على العبد من الأخلاق المذمومة والعوائد السقيمة من الفترة عن الخدمة والضجر والاسترسال مع شيء من عوائد النفس، وذلك يهون باستكمال القوة النظرية.
ولما أمر بمجانبة الذر في الثياب وأراد الحسية والمعنوية، وكان ذلك ظاهراً في الحسية، وجعل ذلك كناية عن تجنب الأقذار كلها لأن من جنب ذلك ملبسه أبعده عن نفسه من باب الأولى، حقق العموم وأكد فقال: {والرجز} أي كل قذر فإنه سبب الدنايا التي هي سبب العذاب، قال في القاموس: الرجز بالكسر والضم: القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك. {فاهجر} أي جانب جهاراً وعبادة، ليحصل لك الثواب كما كنت تجانبها سراً وعادة، فحصل لك الثناء الحسن حتى أن قريشاً إنما تسميك الأمين ولا تناظر لك أحداً منها.
ولما بدأ بأحد سببي القبول، أتبعه الثاني المبعد عن قاصمة العمل من الإعجاب والرياء والملل فقال: {ولا تمنن} أي على أحد بدعائك له أو بشيء تعطيه له على جهة الهبة أو القرض بأن تقطع لذة من أحسنت إليه بالتثقيل عليه بذكرك على جهة الاستعلاء والاستكثار بما فعلته معه، أو لا تعط شيئاً حال كونك {تستكثر} أي تطلب أن تعطي أجراً أو أكثر مما أعطيت- قاله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو من قولهم، منَّ- إذا أعطى، وذلك لأنه الأليق بالمعطي من الخلق أن يستقل ما أعطى، ويشكر الله الذي وفقه له، وبالآخذ أن يستكثر ما أخذ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً لعلة أصلاً، بل لله خالصاً، فإنه إذا زال الاستكثار حصل الإخلاص، لأنه لا يتعلق همه بطلب الاستمثال، فكيف بالاستقلال، فيكون العمل في غاية الخلوص لا يقصد به ثواباً أصلاً، ولا يراد لغير وجه الله تعالى، وهذا هو النهاية في الإخلاص.
ولما كان الإنذار شديداً على النفوس يحصل به من المعالجات ما الموت دونه، لأن ترك المألوفات أصعب شيء على النفوس، وكذا ترك الفوائد، قال أمراً بالتحلي بالعاصم بعد التخلي عن القاصم، معلماً بأن الأذى من المنذرين أمر لا بد منه فيدخل في الطاعة على بصيرة، فاقتضى الحال لذلك أن الإنذار يهون بالغنى عن الفانين والكون مع الباقي وحده، فأشار إلى ذلك بتقديم الإله معبراً عنه بوصف الإحسان ترغيباً فقال: {ولربك} أي المحسن إليك، المربي لك، المدبر لجميع مصالحك وحده {فاصبر} أي على مشاق التكاليف أمراً ونهياً وأذى المشركين وشظف العيش وجميع البلايا، فإنه يجزل عطاءك من خير الدارين بحيث لا يحوجك إلى أحد، ويحوج الناس إليك، ويهون عليك حمل المشاق في الدارين ولا سيما أمر يوم البعث، فإن من حمل العمل في الدنيا حمله العمل في الآخرة.
ولما كان المقام للإنذار، وكان من رد الأوامر تكذيباً كفر، ومن تهاون بها ما أطاع ولا شكر، حذر من الفتور عنها بذكر ما للمكذب بها، فقال مسبباً عن ذلك باعثاً على اكتساب الخيرات من غير كسل ولا توقف، مذكراً بأن الملك التقم القرن وأصغى بجبهته انتظاراً للأمر بالنفخ، مشيراً بالبناء للمفعول إلى هوانه لديه وخفته عليه مؤذناً بأداة التحقق أنه لا بد من وقوعه: {فإذا نقر} أي نفخ وصوّت بشدة وصلابة ونفوذ وإنكاء {في الناقور} أي الصور وهو القرن الذي إسرافيل عليه السلام ملتقمه الآن وهو مصغ لانتظار الأمر بالنفخ فيه للقيامة، ويجوز أن يراد الأيام التي يقضي فيها بالذل على الكافرين كيوم بدر والفتح وغيرهما كما جعلت الساعة والقيامة كناية عن الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته» عبر عنه بالنقر إشارة إلى أنه في شدته كالنقر في الصلب فيكون عنه صوت هائل، وأصل النقر القرع الذي هو سبب الصوت فهو أشد من صدعك لهم بالإنذار للحذار من دار البوار، فهنالك ترد الأرواح إلى أجسادها، فيبعث الناس فيقومون من قبورهم كنفس واحدة، وترى عاقبة الصبر، ويرى أعداؤك عاقبة الكبر، والتعبير فيه بصيغة المبالغة وجعله فاعلاً كالجاسوس إشارة إلى زيادة العظمة حتى كأنه هو الفاعل على هيئة هي في غاية الشدة والقوة، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم من النفخ في الصور وقربه فقالوا: «كيف نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل» ويجوز أن يكون التسبب عن الأمر بالصبر، أي اصبر فلنأخذن بثأرك في ذلك اليوم بما يقر عينك، فيكون تسلية له صلى الله عليه وسلم وتهديداً لهم.
ولما ذكر هذا الشرط هل (؟) الذي صوره بصوره هائلة، أجابه بقوله: {فذلك} أي الوقت الصعب الشديد العظيم الشدة جداً البالغ في ذلك مبلغاً يشار إليه إشارة ما هو أبعد بعيد، وهو وقت النقر، ثم أبدل من هذا المبتدأ زيادة في تهويله قوله: {يومئذ} أي وقت إذ يكون النقر الهائل {يوم عسير} أي بالغ العسر {على الكافرين} أي الذين كانوا يستهينون بالإنذار ويعرضون عنه لأنهم راسحون في الكفر الذي هو ستر ما يجب إظهاره من دلائل الوحدانية، ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً، بين أنه ليس كذلك بقوله: {غير يسير} فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضده تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه وتأييداً لكونه ولأنه غير منقطع بوجه، وتقييده بالكافرين يشعر بتيسره على المؤمنين.


ولما آذن هذا بأن أكثر الخلق يوافى يوم القيامة على كفره وخبث طويته وسوء أمره وكان ذلك مما يهم لشفقته صلى الله عليه وسلم على الخلق، ولما يعلم من نصبهم للعداوة، هون أمرهم عليه وحقر شأنهم لديه بوعده بالكفاية بقوله مستأنفاً منبهاً على أسباب الهلاك التي أعظمها الغرور وهو شبهة زوجتها شهوة: {ذرني} أي أتركني على أي حالة اتفقت {ومن} أي مع كل من {خلقت} أي أوجدت من العدم وأنشأت في أطوار الخلقة، حال كونه {وحيداً} لا مال له ولا ولد ولا شيء، وحال كوني أنا واحداً شديد الثبات في صفة الوحدانية لم يشاركني في صنعه أحد فلم يشكر هذه النعمة بل كفرها بالشرك بالله سبحانه القادر على إعدامه بعد إيجاده.
ولما كان المطغى للإنسان المكنة التي قطب دائرتها المال قال: {وجعلت له} أي بأسباب أوجدتها أنا وحدي لا حول منه ولا قوة بدليل أن غيره أقوى منه بدناً وقلباً وأوسع فكراً وعقلاً وهو دونه في ذلك {مالاً ممدوداً} أي مبسوطاً واسعاً نامياً كثيراً جداً عاماً لجميع أوقات وجوده، والمراد به كما يأتي الوليد بن المغيرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار.
ولما كان أول ما يمتد إليه النفس بعد كثرة المال الولد، وكان أحب الولد الذكر، قال: {وبنين} ولما كان الاحتياج إلى فراقهم ولو زمناً يسيراً شاقاً، وكان ألزمهم له وأغناهم عن الضرب في الأرض نعمة أخرى قال: {شهوداً} أي حضوراً معه لغناه عن الأسفار بكثرة المال وانتشار الخدم وقوة الأعوان، وهم مع حضورهم في الذروة من الحضور بتمام العقل وقوة الحذق، فهم في غاية المعرفة بما يزيدهم الاطلاع عليه حيثما أرادهم وجدهم وتمتع بلقياهم، ومع ذلك فهم أعيان المجالس وصدور المحافل كأنه لا شاهد بها غيرهم، منهم خالد الذي من الله بإسلامه، فكان سيف الله تعالى وسيف رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما كان هذا كناية عن سعة الرزق وعظم الجاه، وكان من بسط له في المال والولد والجاه تتوق نفسه إلى إتمام ذلك بالحفظ والتيسير، قال مستعطفاً لما كان هكذا بالتذكير بنعمه: {ومهدت} أي بالتدريج والمبالغة {له} أي وطأت وبسطت وهيأت في الرئاسة بأن جمعت له إلى ملك الأعيان ملك المعاني التي منها القلوب، وأطلت عمره، وأزلت عنه موانع الرغد في العيش، ووفرت أسباب الوجاهة له حتى دان لذلك الناس، وأقام ببلده مطمئناً يرجع إلى رأيه الأكابر، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وسعت له ما بين اليمن إلى الشام فأكملت له من سعادة الدنيا ما أوجب التفرد في زمانه من أهل بيته وفخذه بحيث كان يسمى الوحيد وريحانة قريش فلم يزع هذه النعمة العظيمة: وأكد ذلك بقوله: {تمهيداً}.
ولما كان قد فعل به ذلك سبحانه، فأورثته هذه النعمة من البطر والاستكبار على من خوله فيها ضد ما كان ينبغي له من الشكر والازدجار، قال محققاً أنه سبحانه هو الذي وهبها له وهو الواحد القهار، مشيراً بأداة التراخي إلى استبعاد الزيادة له على حالته هذه من عدم الشكر: {ثم} أي بعد الأمر العظيم الذي ارتكبه من تكذيب رسولنا صلى الله عليه وسلم {يطمع} أي بغير سبب يدلي به إلينا مما جعلناه سبب المزيد من الشكر: {أن أزيد} أي فيما آتيته من دنياه أو آخرته وهو يكذب رسولي صلى الله عليه وسلم.
ولما كان التقدير: إنه ليطمع في ذلك لأن المال والجاه يجران الشرف والعظمة بأيسر سعي، هذا هو المعروف المتداول المألوف، استأنف زجره عن ذلك بمجامع الزجر: علماً من أعلام النبوة، وبرهاناً قاطعاً على صحة الرسالة، فقال ما لا يصح أن يقوله غيره سبحانه لأنه مع أنه لا تردد فيه ولا افتراء طابق الواقع، فلم يزد بعد ذلك شيئاً، بل لم يزل في نقصان حتى هلك وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل لكلماته {كلا} أي وعزتنا وجلالنا لا تكون له زيادة على ذلك أصلاً، وأما النقصان فسيرى إن استمر على تكذيبه فليرتدع عن هذا الطمع، وليزدجر وليرتجع، فإنه حمق محض وزخرف بحت، وغرور صرف، ولما ردعه هذا الردع المقتضي ولا بد للإذعان وصادق الإيمان ممن لم يستول عليه الحرمان، علله بقوله مؤكداً لإنكارهم العناد والمعاد: {إنه} أي هذا الموصوف {كان} بخلق كأنه جبلة له وطبع لا يقدر على الانفكاك عنه {لآياتنا} على ما لها من العظمة خاصة لكونها هادية إلى الوحدانية، لا لغيرها من الشبه القائدة إلى الشرك {عنيداً} أي بالغ العناد على وجه لا يعد عناده لغيرها بسبب مزيد قبحه عناداً، والعناد- كما قال الملوي: من كبر في النفس أو يبس في الطبع أو شراسة في الأخلاق أو خبل في العقل، وقد جمع ذلك كله إبليس، لأنه خلق من نار. وهي من طبعها اليبوسة وعدم الطواعية، وحقيقته ميل عن الجادة، ومجاوزة للحد مع الإصرار واللزوم، ومنه مخالفة الحق مع المعرفة بأنه حق.
ولما كان هذا محراً للتشوف إلى بيان هذا الردع، وكان العناد غلظة في الطبع وشكاسة في الخلق يوجب النكد والمشقة جعل جزاءه من جنسه فقال: {سأرهقه} أي ألحقه بعنف وغلظة وقهر إلحاقاً يغشاه ويحيط به بوعيد لا خلف فيه {صعوداً} أي شيئاً من الدواهي والأنكاد كأنه عقبة، فإن الصعود لغة العقبة شاق المصعد جداً، وروى الترمذي عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي، وفي رواية: أنه كلما وضع يده في معالجة الصعود ذابت، فإذا رفعها عادت وكذا رجله، وقال الكلبي: إنه صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها بجذب من أمامه بسلاسل الحديد، ويضرب من خلفه بمقامع الحديد فيصعدها في أربعين عاماً، فإذا بلغ ذروتها أسقط إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها، فذلك دأبه أبداً.


ولما حصل التشوف إلى بعض ما عاند به الآيات، قال مبيناً لذلك مؤكداً لاستبعاد العقلاء لما صنع لبعده عن الصواب ومعرفة كل ذي لب أنه كذب: {إنه} أي هذا العنيد {فكر} أي ردد فكره وأداره تابعاً لهواه لأجل الوقوع على شيء يطعن به في القرآن {وقدر} أي أوقع تقديراً للأمور التي يطعن بها فيه وقايتها في نفسه ليعلم أيها أقرب إلى القبول. ولما كان تفكيره وتقديره قد أوقع غيره في الهلاك بمنعه من حياة الإيمان أصيب هو بما منعه من حياة نافعة في الدارين، وذلك هو الهلاك الدائم. ولما كان الضار إنما هو الهلاك لا كونه من معين، سبب عن ذلك بانياً للمفعول قوله مخبراً وداعياً دعاءً مجاباً لا يمكن تخلفه: {فقتل} أي هلك ولعن وطرد في دنياه هذه. ولما كان التقدير غاية التفكير، وكان التفكير ينبغي أن يهديه إلى الصواب فقاده إلى الغي، عجب منه فقال منكراً عليه معبراً بأداة الاستفهام إشارة إلى أنه مما يتعجب منه ويسأل عنه: {كيف قدر} أي على أي كيفية أوقع تقديره هذا، وإذا أنكر مطلق الكيفية لكونها لا تكاد لبطلانها تتحقق، كان إنكار الكيف أحق.
ولما كان وقوعه في هذا الطعن عظيماً جداً لما فيه من الكذب المفضوح ومن معاندة من هو القوي المتين المنتقم القهار العظيم ومن غير ذلك من الوجوه المبعدة عن الوقوع فيه، أكد المعنى زجراً عن مثله وحثاً على التوبة منه، فقال معبراً بأداة البعد دلالة على عظمة هذا القتل بالتعبير بها وبالتكرار: {ثم قتل} أي هلك ولعن هذا العنيد هلاكاً ولعناً هو في غاية العظمة فيما بعد الموت في البرزخ والقيامة {كيف قدر} ولما كان الماهر بالنظر إذا فكر وصحح فكره نظر في لوازمه قال مشيراً إلى طول ترويه: {ثم نظر} أي فيما يدفع به أمر القرآن مرة بعد أخرى، وفي ذلك إشارة إلى قبح أفعاله، فظهور الحق له مع إصراره فإن تكرار النظر في الحق لا يزيده على كل حال إلا ظهوراً وفي الباطل لا يزيده إلا ضعفاً وفتوراً.
ولما كان من فعل كذلك فظهر له فساد رأيه ووقف مع حظ نفسه يصير يعبس ويفعل أشياء تتغير لها خلقته من غير اختياره قال: {ثم عبس} أي قطب وجهه وكلح فتربد وجهه مع تقبض جلده ما بين العينين بكراهة شديدة كالمتهم المتفكر في شيء وهو لا يجد فيه فرجاً لأنه ضاقت عليه الحيل لكونه لم يجد فيما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مطعناً {وبسر} اتباع لعبس تأكيداً لها، وربما أفهمت أنه سبر ما قاله ووزنه بميزان الفكر وتتبعه تتبعاً مفرطاً حتى رسخت فيه قدمه، كذا قالوا إنها اتباع إن أريد به التأكيد وإلا فقد وردت مفردة، قال في القاموس: بسر- إذا عبس، وبسر الحاجة: طلبها في غير أوانها، وبسر الدين: تقاضاه قبل محله، فكأنه لما طال عليه التفكير صار يستعجل حصوله إلى مراده، ويقال: بسر- إذا ابتدأ الشيء، فكأنه لما عبس خطر له السحر فابتدأ في إبداء ما سنح له من أمره، قال ابن برجان: البسور هيئة في الوجه تدل على تحزن في القلب.
ولما كان هذا النظر على هذا الوجه أمدح شيء للمنظور فيه إذا لم يوصل منه إلى طعن، وكان ظاهره إنه لتطلب الحق، فكان الإصرار معه على الباطل في غاية البعد، قال دالاً على ذلك من المدح وعدم وجدان الطعن معبراً بأداة البعد: {ثم} أي بعد هذا التروي العظيم {أدبر} أي عما أداه إليه فكره من الإيمان بسلامة المنظور فيه وعلوه عن المطاعن، فحاد عن وجوه الأفكار إلى أقفائها {واستكبر} أي وأوجد الكبر عن الاعتراف بالحق إيجاد من هو في غاية الرغبة فيه، وكان هذا غاية العناد، فكان معنى العنيد {فقال} أي عقب ما جره إليه طبعه الخبيث من إيقاع الكبر على هذا الوجه لكونه رآه نافعاً لهم في الدنيا ولم يفكر في عاقبة ذلك من جهة الله، وأنه سبحانه لا يهدي كيد الخائنين ولا ينجح مراد الكاذبين، ونحو هذا مما جربوه في دنياهم فكيف رقى نظره إلى أمر الآخرة، وأكد الكلام لما يعلم من إنكار من يسمعه فقال: {إن} أي ما {هذا} أي الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم {إلا سحر} أي أمور تخييلية لا حقائق لها، وهي لدقتها بحيث تخفى أسبابها.
ولما كان من المعلوم لهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما سحر قط ولا تعلم سحراً، فكان من ادعى ذلك علم كذبه بأدنى نظر بعد الأمر بقدر استطاعته فقال: {يؤثر} أي من شأنه أن ينقله السامع له من غيره، فهو لقوة سحريته وإفراطها في بابها يفرق بمجرد الرواية بين المرء وزوجه وبين المرء وأبيه وابنه إلى غير ذلك من العجائب التي تنشأ عنه. ولما كان السامع يجوز أن يكون مأثوراً عن الله فيوجب له ذلك الرغبة فيه، قال من غير عاطف كالمبين للأول والمؤكد له، وساقه على وجه التأكيد بالحصر لعلمه أن كل ذي بصيرة ينكر كلامه: {إن} أي ما {هذا} أي القرآن {إلا قول البشر} أي ليس فيه شيء عن الله فلا يغتر أحد به ولا يعرج عليه، وقد مدحه بهذا الذم بعد هذا التفكير كله من حيث إنه أثبت أنه معجوز عنه لأغلب الناس كما يعجزون عن السحر فسكت ألفاً ونطق خلفاً، فكان شبيهاً من بعض الوجوه بما قاله بعضهم:
لو قيل كم خمس وخمس لاغتدى *** يوماً وليلته يعد ويحسب
ويقول معضلة عجيب أمرها *** ولئن عجبت لها الأمري أعجب
حتى إذا خدرت يداه وعورت *** عيناه مما قد يخط ويكتب
أوفى على شرف وقال ألا انظروا *** ويكاد من فرح يجن ويسلب
خمس وخمس ستة أو سبعة *** قولان قالهما الخليل وثعلب
وهكذا كل حق يجد المبالغ في ذمه لا ينفك ذمه عن إفهام مدح له ينقض كلامه، ولكن أين النقاد المعدود من الأفراد بين العباد، وهذا الكلام صالح لعموم كل من خلقه سبحانه هكذا في الروغان من الحق لما تفضل الله به عليه من الرئاسة لأن أهل العظمة في الدنيا هم في الغالب القائمون في رد الحق والتعاظم على أهله كما ذكر هنا ولا ينافي ذلك ما قالوه: إنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، بل ذلك من إعجاز كلام الله تعالى أن تنزل الآية في شخص فتبين حاله غاية البيان ويعم غيره ذلك البيان، قالوا: كان للوليد هذا عشرة من البنين، كل واحد منهم كبير قبيلة، ولهم عبيد يسافرون في تجاراتهم ويعملون احتياجاتهم، ولا يحوجونهم إلى الخروج من البلد لتجارة ولا غيرها، وأسلم منهم ثلاثة: الوليد بن الوليد وخالد وهشام، وقيل: إنه لما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أول سورة غافر إلى قوله: {المصير} [غافر: 3] أو أول فصلت قرأها النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد يسمعه، فأعاد القراءة فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، والله لقد سمعت من محمد صلى الله عليه وسلم آنفاً كلاماً ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق، وإنه ليعلو ولا يعلى، ثم انصرف فقالت قريش: صبا والله الوليد، والله لتصبون قريش كلها، وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال ابن أخيه أبو جهل: أنا أكفيكموه، فقعد إلى جنب الوليد حزيناً، فقال الوليد: ما لي أراك حزيناً يا ابن أخي؟ قال: وما يمنعني وهذه قريش تجمع لك نفقة تعينك بها على كبر سنك وتزعم أنك صبوت، لتدخل على ابن أبي كبشة وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهم، فغضب الوليد وقال: ألم تعلم قريش أني من أكثرها مالاً وولداً، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه وأداروا الرأي فيما يقولونه في القرآن فقالوا له: ما تقول في هذا الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: قولوا أسمع لكم، قالوا: شعر، قال: ليس بشعر، قد علمنا الشعر كله، وفي رواية: هل رأيتموه يتعاطى شعراً؟ قالوا: كهانة، قال: ليس بكهانة، هل رأيتموه يتكهن؟ فعدوا أنواع البهت التي رموا بها القرآن فردها، وأقام الدليل على ردها، وقال: لا تقولوا شيئاً من ذلك إلا أعلم أنه كذب، قالوا: فقل أنت وأقم لنا فيه رأياً نجتمع عليه، قال: أقرب ذلك إليه السحر، هو يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وزوجه وعشيرته، فافترقوا على ذلك، وكان قوله هذا سبب هلاكه فكان كما قال بعضهم:
احفظ لسانك أيها الإنسان *** لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه *** كانت تخاف لقاءة الشجعان

1 | 2 | 3